الواقع الثقافي العراقي عام 2012 العراق: مساحات هاربة من ثقافة الماضي

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
28/12/2012 06:00 AM
GMT



قراءة الواقع الثقافي عبر سنة واحدة قد لا تعطي صورة واضحة عن مشهد واسع، متعدد الرؤى والمنافذ والنوازع والأهواء وإيديولوجيات ما بعد 2003.
ولا شك أن من يقرأ متغيرات هذا الواقع لا يتخلى عن رديفه السياسي الذي ارتبط بالكيان الثقافي على نحو ما ليس من الصعوبة تأشيره هنا وهناك في مفاصل المشغل الثقافي العام. بمعنى أن السياسي المتطفل الذي تعوزه الثقافة لا يني من إحاطة نفسه بالهالة الثقافية إذا وجد ذلك ممكناً، لتغطية فشله في حاضنة الحياة بتفسيرها العام، ومع يقيننا شبه المؤكد أن الثقافي فينا نأى كثيراً عن هذا التماس غير المفيد، غير أن هناك من فشل نسبياً أو كلياً حينما احتمى بهذه المظلة السياسية أو تلك.
ومع أن السياسي؛ المتخلف دائماً؛ والقاصر عن رصد الحياة؛ يحاول أن يستعين بالثقافي لتجميله أو كسبه أو إحالته إليه، إلا أن الأخير ينجو أحياناً من هذه الوصمة وهذا العار الملتبس، لكنه في أحيان قليلة لا ينجو من هذه الآفة لا سيما إذا كان الديني - المذهبي يتقدم بعباءته المشبوهة ليخلق وهمَ الثقافي الجديد ويسربله بعباءته.
(1)
عام2012 لم يشهد فعاليات ثقافية بارزة ومهمة ولم يفرز ظواهر أدبية يمكن أن نقف عندها كثيراً أو قليلاً، سوى فعاليات تقليدية من أماسٍ أدبية ومعارض تشكيلية وإصدارات مختلفة وندوات مناسباتية لا تعني إلا منظميها، وربما التهيئة لمشروع "بغداد عاصمة الثقافة العربية" الذي تضطلع به وزارة الثقافة هو ما يمكن تأشيره والذي تتم الاستعدادات له بشكل موسع، وهذه التهيئة شهدت فعاليات أدبية وفنية تمهيدية متعددة الأوجه في بغداد وبعض المحافظات، كما شاركت بعض منظمات المجتمع المدني في هذه الإعدادات في ترتيبات فنية وأدبية لإغناء هذه الأيام بمبادرات بعضها فردي وبعضها جماعي، وكل هذا يُعدّ من باب تهيئة المناخ الملائم لاحتضان فعاليات أدبية أكثر اتساعاً وشمولية في الأفق الثقافي العراقي.
يمكن عدّ أبرز نشاط في هذا البرنامج هو إقامة ملتقى الشعر العربي (التجريبي) هذا الشهر، الذي حضره بحدود خمسين شاعراً عربياً، وهو الملتقى الذي أحدث جدلاً واسع النطاق وشهد مقاطعة شعرية يمكن وصفها بأنها أول مقاطعة أدبية معلنة في عمر العراق الثقافي الحديث، قادها شعراء يوصفون بأنهم شعراء حداثويون، وتشبث بجلابيبهم من ظن نفسه شاعراً حداثياً ركوباً لموجة المقاطعة، وشهدت بعض صفحات الصحف الثقافية اليومية شحناً كبيراً للمقاطعة لأسباب في غالبها سياسي محض يستهدف رئاسة الوزراء عبر وزارة الثقافة في هذا الملتقى، كما شهدت صفحات الفايسبوك جدلا آخر هو الأعنف من نوعه بين المتحاربين من طرفي المعادلة، ووصلت الأمور الى مستوى فيه من الأحقاد الشخصية أكثر مما فيه من تصحيح مسار، أو تقويم حالة أو إبداء رأي، وفي هذا المعترك برزت دعوات مشبوهة لتفريق أدباء (الداخل) و (الخارج) ووضع عصا غليظة بين التسميتين، وهي دعوة سخيفة لم تلق آذاناً صاغية ومن الطرفين أيضاً!
(2)
شهد العام 2012 صدور عدد لا يستهان به من الروايات، ضمن موجة إصدارات روائية بدأت منذ عام 2003 وحتى اليوم، وهو أمر يدعو للمراقبة النقدية التي عجزت حتى الآن عن متابعة هذا الكم الروائي الكبير الذي لم يوضع حتى الآن بشكله النقدي المؤمّل.
وعلى حساب الشعر وبقية الفنون الأدبية، تشير هذه الموجة إلى معطيات واضحة في حرية الكتابة المنعتقة من كوابيس سنوات مريرة تخاطفتها الحروب ومرارات الديكتاتورية وسوء الحال السياسية المعروفة. غير أن هذا الكم الروائي لم يفرز أنموذجه الإبداعي حتى اليوم، فقراءة 30 رواية أو اكثر في عام واحد لا تترك أثراً ما، يعني أن في القضية الروائية إشكاليات فنية. وما يمكن ملاحظته بوضوح تام، وهذا رأيي الشخصي، ان هذا المدد من الروايات يتشابه إلى حد كبير في موضوعته! فقد يكون الاحتلال الأميركي قد أوجد فسحة كبيرة للروائيين لمعاينة واقع الحال عبر هذا الموشور العسكري الغريب لتحليل المجتمع العراقي قبل وبعد 2003، فكانت فرصة انعتاق من أسر أدبي طويل استوعبت بعضاً منه الرواية من دون الشعر والمسرح والفن التشكيلي، وهو أمر طبيعي لما في الرواية من مساحة فنية وزمنية قادرة على الإحاطة بمشكلات واقع متغير عمودياً وأفقياً.
(3)
قد يكون الشعر أسبق من الفنون الأخرى في خروجه الى القارئ العربي في الانتباه الى ضرورة النشر في الخارج، غير أن الرواية وبسبب ظهورها المفاجئ بعد الاحتلال لم تستوعبها المطابع العراقية، فهاجر روائيوها الى خارج العراق توخياً لمبدأ الانتشار والحصول على طبعات أنيقة في بيروت ودمشق وعمّان، مما أنعش دور نشر عربية اقتصادياً، لا سيما بعض دور النشر في دمشق وعمّان. لكن معظم هذه الطبعات الأنيقة بقيت أنيقة إلى حد كبير!
هجرة المؤلفين العراقيين الى الخارج بمطبوعاتهم يبشّر بانتعاش اقتصادي بلا شك، ويشخّص خللاً في قضية استيعاب المؤلفات العراقية التي تتبنى جزءاً مهماً منها وزارة الثقافة عبر دار الشؤون الثقافية التي تضطلع بهذا الدور، إضافة الى سوء طبعها وندرة توزيعها.
(4)
وجود أكثر من 40 صحيفة يومية وفر أكثر من 40 صفحة ثقافية يومية، وهي كافية لتغطية الانفجارات الشعرية والمقالية والقصصية وشيوع الأعمدة الصحافية لأدباء وصحافيين، اتجهت سياسياً على حساب الثقافي في معظم حالاتها، فالسياسي الأمي أيضاً وفر فرصة للمثقف من أن يناله في هذه المساحات المفتوحة الهاربة من رقابة الماضي الى حرية النشر المفتوحة على مصراعيها. مع ملاحظة أن وفرة هذه الصفحات اليومية لم تستطع بمجملها أن تنشئ ظاهرة ثقافية في الشعر والقصة والرواية والمسرح وبقية الفنون أو تحتضن ملمحاً أدبياً ناشئا يعدُ بعطاءات مستقبلية، بل سيّرتها إيديولوجيات الأحزاب المالكة لهذه الصحف، وبالتالي خضع معظم هذا الكم الثقافي الى النوع السياسي، أو سارت بتوجيهاته، بل في معظم الأحيان صارت هذه المساحات أماكن للطعن بهذا وذاك بطريقة عشائرية أو حزبية أو يفترعها الثأر الشخصي لمحررين لا يعرفون أبجدية الصحافة المهنية ولا أخلاق الثقافة العامة.
نلاحظ أيضاً أن الصفحات الثقافية اعتمدت النشر الكيفي والمجاني، وما تسرقه من الشبكة العنكبوتية من دون مراجعات فنية ولغوية، الأمر الذي أشاع جواً من السهولة في النشر وأحبط الكثيرين من شيوع هذه التنازلات لملء صفحات فيها من الغث أكثر مما فيها من السمين. . وكان هذا دافعاً لكثيرين من الأدباء أن يتوجهوا لإنشاء صفحات شخصية ومخاطبة القارئ مباشرة من دون اللجوء إلى الصحيفة كحائط نشر.
(5)
مهرجانات الثقافة قليلة في عام 2012 وهي مهرجانات شعرية في توجهاتها ويمكن تأشير مهرجاني "كميت" في ميسان و"كلاويش" في السليمانية، ثم مهرجان بغداد السينمائي الأول الذي حظي بتغطية إعلامية معقولة ووفر فرصة لسينمائيي العراق أن يكونوا في مستوى إبراز طاقاتهم السينمائية بالرغم من تباين الآراء المعتادة في محفل كهذا المحفل.
(6)
كان لا بد أن نفقد أعلاماً وأسماء في دورة الحياة السنوية، ففي هذا العام فقدنا شخصيات أدبية وثقافية وعلمية وصحافية معروفة، فكان آخر المتوفين هذا العام من مثقفي العراق هو الباحث الموسوعي زهير أحمد القيسي الذي ترك وراءه عدداً وفيراً من المؤلفات التراثية المطبوعة والمخطوطة، ولم يلق هذا الباحث اهتماماً يذكر على مر الحكومات المتعاقبة، لكنه بقي حاضراً في المشهد الثقافي بعناد وكرّس اسمه ضمن فريق الباحثين العصاميين الذين لم يذعنوا لهذه السلطة أو تلك.
وأثناء إعداد هذا التقرير نقلت أخبار العاصمة الأردنية وفاة السيد عبدالجبار محسن، وهو صحافي مخضرم عرف بـ"الناطق العسكري" أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية، وقبل هذا وذاك فقد الوسط الثقافي الشاعر محمد علي الخفاجي والمسرحي قاسم مطرود والفنان حمودي عتيق والشاعر محمد الغبان والشاعر سلمان الجبوري.